٩ سبتمبر ٢٠٠٦

فايق يا هوىَ

منذ قليلٍ كنت في طريق عودتي من مدينة روما الى منزلي في مدينة فيتِربو. كنت قد اشتريت علبتي الحلاوة الطحينية، وهما اهم ما وجب عليَّ ان اتذكر بعد العديد والشديد من الحاح ابنتي الصغيرة. 

الشمس قد بدأت مشوارها اليومي نحو المغرب حاملة وايَاها احلام اليوم وآماله، والطريق يمتد مستقيماً امام عيني، تحيطه حقول خضر واسوار صلبة من الاسمنت المسلح. تقفز الى حلقي، آتية من بقعة مجهولة، مرارة الشوق والحنين الى مصر وقد شابتها حلاوة الذكرى وحنين الغريب الى الحبيب. أبحث عن شئ يصلني بها، احملق في احمرار الغروب فيبدو غير الذي عهدت في سماء القاهرة. املأ انفاسي بعبير الهواء مستلهما رحيقا قد يعود بي الى عهود بادت موقنا أن هواء القاهرة في هذا الوقت من اليوم غريب عمّا يتدفق الى صدري. 

 للقاهرة في هذا الحين من اليوم عطر اعمق عبقا وأشد حلاوة، تختلط فيه رائحة الذرة المشوي والفحم الموقد وعبير نفحة هواء طيب تعانق الوجوه بعد قيظ يوم شديد، عطر، وان اصابه داء من عطن أو ماء راكدٍ لا زال يحمل في روحه اريج الطين وخلطة الملوخية وثوم البصطرمة وشيئا من العيش الفينو الطازج وقد اصطفت اعواده امام الناظرين في شوارع ميدان الجامع. 

اتفقد من حولي، اتمنى ان اجد شريطا او قرصا لأي شئ عربي: أم كلثوم، عبد الحليم، أو محمد رفعت. احرك مفتاح المذياع بحثاً عن صوت تونس أو الجزائر، استمر جادا في بحثي موقفاً سيارتي غير عابئ بالوقت وغير عابئ بالطريق. تنهال على رأسي ذكريات ومناظر تحطم في طريقها حواجز الزمان والمكان: فأجدني مرة وكأنني في عجلة من امري للوصول الى البيت قبل مدفع الافطار في رمضان مصري ما، ومرة اخرى وقد اوقفت سيارتي في مدينة طنطا عائدا من الاسكندرية باحثا عن المقهى الذي اعتدت التوقف اليه عند كل عودة وكأنه طقس من الطقوس المقدسة، ومرة ثالثة أجدني صبيا تبلل جبينه بعرق الارهاق بعد خسارة مباراة "كورة شراب" في شوارع "عزبة النخل" ولا شك ان "وابور الجاز" و "صفيحة الماء المغلي" لكفيلان بأن يذهبا عنه عناء اللعب وحسرة الخسارة. 

 لا تكل يدي عن تحريك مفتاح المذياع علني أجد ضجيجا عربيا بعيدا يأتي بهذا اللسان الحلو الى صميم أذني، ابدأ حتى في الدعاء الى الله ان يهدني الى "محطة" ما. من بين حشرجات الراديو اسمع نقرة وتر قانون وانين ناي وتتملكني فرحة طفل اعادوه الى ابويه. يخرج صوتها اكثر ملائكية من تصوري لصوت الملائكة ليدغدغ سمعي ويلهب حنيني. فيروز: 

فايق ياهوى 
لم كنا سوا 
والدمع سهرني 
وصفولي الدوا 
تاري الدوا حبك 
وفتش ع الدوا 
 فاكر لما راحوا 
اهالينا مشوار 
تركونا وراحوا 
وقالوا ولاد صغار 
ودارت فينا الدار 
ونحنا ولاد صغار 
والهوا جمعنا 
وفرقنا الهوا 
 طير المسا جاي 
من سفر طويل 
على باب السهرة 
تبكي المواويل 
نطفي القناديل 
وتبكي المواويل 
ونسهر على العتمه 
ليلتنا سوا
واسأل نفسي: ترى ماذا يقصد الشاعر حين يقول "ودارت فينا الدار ونحنا ولاد صغار"؟

ليست هناك تعليقات: